فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{فلا تُطِعِ الْمُكذِّبِين (8)}
نهاه عن ممايلة المشركين؛ وكانوا يدعونه إلى أن يكُفّ عنهم ليكفُّوا عنه، فبيّن الله تعالى أن ممايلتهم كفر.
وقال تعالى: {ولوْلا أن ثبّتْناك لقدْ كِدتّ ترْكنُ إِليْهِمْ شيْئا قلِيلا} [الإسراء: 74] وقيل: أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث.
نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
{ودُّوا لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون (9)}
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسُّدّيّ: ودّوا لو تكفر فيتمادوْن على كفرهم.
وعن ابن عباس أيضا: ودّوا لو تُرخِّص لهم فيُرخِّصون لك.
وقال الفرّاء والكلْبيّ: لو تلين فيلينون لك.
والادّهان: التّليين لمن لا ينبغي له التّليين؛ قاله الفرّاء.
وقال مجاهد: المعنى ودّوا لو ركنْت إليهم وتركت الحقّ فيُمالئونك.
وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون.
وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك.
الحسن: ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم.
وعنه أيضا: ودّوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم.
زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون.
وقيل: ودّوا لو تضعف فيضعفون؛ قاله أبو جعفر.
وقيل، ودّوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم؛ قاله القُتبيّ.
وعنه: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدّة ويعبدوا إلهه مدّة.
فهذه اثنا عشر قولا.
ابن العربيّ: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلّها دعاوى على اللغة والمعنى.
أمثلها قولهم: ودّوا لو تكذب فيكذبون، ودّوا لو تكفر فيكفرون.
قلت: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى؛ فإن الادّهان: اللينُ والمصانعة.
وقيل: مجاملة العدُوّ ممايلته.
وقيل: المقاربة في الكلام والتّليين في القول.
قال الشاعر:
لبعض الغشْم أحزم في أمور ** تنوبك من مداهنة العِده

وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة.
فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأوّل غير مذمومة، وكل شيء منها لم يكن.
قال المبرد: يقال أدهن في دينه وداهن في أمره؛ أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت؛ قاله الجوهريّ.
وقال: {فيُدْهِنُون} فساقه على العطف، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا.
وإنما أراد: إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك؛ عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
{ولا تُطِعْ كُلّ حلّافٍ مهِينٍ (10)}
يعني الأخنس بن شرِيق؛ في قول الشعبيّ والسُّديّ وابن إسحاق.
وقيل: الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود؛ قاله مجاهد.
وقيل: الوليد بن المغيرة، عرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه؛ قاله مقاتل.
وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام.
والحلاّف: الكثير الحلِف.
والمهِين: الضعيف القلب؛ عن مجاهد.
ابن عباس: الكذاب.
والكذاب مهين.
وقيل: المكثار في الشّر؛ قاله الحسن وقتادة.
وقال الكلبيّ: المهِين الفاجر العاجز.
وقيل: معناه الحقير عند الله.
وقال ابن شجرة: إنه الذليل.
الرُّمّاني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح.
وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة.
وهي هنا القلة في الرأي والتمييز.
أو هو فعيل بمعنى مُفْعل؛ والمعنى مُهان.
{همّازٍ} قال ابن زيد: الهّماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم.
واللماز باللسان.
وقال الحسن: هو الذي يهمز ناحية في المجلس؛ كقوله تعالى: {هُمزة} [الهمزة: 1] وقيل: الهمّاز الذي يذكر الناس في وجوههم.
واللّماز الذي يذكرهم في مغيبهم؛ قاله أبو العالية وعطاء بن أبي رباح والحسن أيضا.
وقال مقاتل ضدّ هذا الكلام: إن الهُمزة الذي يغتاب بالغيبة.
واللُّمزة الذي يغتاب في الوجه.
وقال مرّة: هما سواء.
وهو القتّات الطّعّان للمرء إذا غاب.
ونحوه عن ابن عباس وقتادة.
قال الشاعر:
تُدْلِي بودّ إذا لاقيتني كذبا ** وإنْ أغِبْ فأنت الهامز اللُّمزهْ

{مّشّاءِ بِنمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.
يقال: نمّ ينِمّ نمّا ونمِيما ونمِيمة؛ أي يمشي ويسعى بالفساد.
وفي صحيح مسلم: عن حُذيفة أنه بلغه أن رجلا ينمّ الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة نمّام» وقال الشاعر:
وموْلى كبيت النمل لا خير عنده ** لمولاه إلا سعْيُه بنميم

قال الفرّاء: هما لغتان.
وقيل: النّميم جمع نميمة.
{مّنّاعٍ لِّلْخيْرِ} أي للمال أن ينفق في وجوهه.
وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته.
وقال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا.
{مُعْتدٍ} أي على الناس في الظلم، متجاوز للحدّ، صاحب باطل.
{أثِيمٍ} أي ذي إثم، ومعناه أثُوم، فهو فعيل بمعنى فعول.
{عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ} العُتُلّ الجافي الشديد في كفره.
وقال الكلبيّ والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل.
وقيل: إنه الذي يعتِل الناس فيجرّهم إلى حبس أو عذاب.
مأخوذ من العتْل وهو الجرّ؛ ومنه قوله تعالى: {خُذُوهُ فاعتلوه} [الدخان: 47] وفي الصّحاح: وعتلت الرجل أعْتِله وأعْتُله إذا جذبته جذبا عنيفا.
ورجل مِعْتل (بالكسر).
وقال يصف فرسا:
نفْرعه فرعا ولسنا نعْتِله

قال ابن السكيت: عتله وعتنه، باللام والنون جميعا.
والْعُتُلّ الغليظ الجافي.
والْعُتُلّ أيضا: الرمح الغليظ: ورجل عتِلٌ (بالكسر) بيِّن العتل؛ أي سريع إلى الشر.
ويقال: لا أنعتل معك؛ أي لا أبرح مكاني.
وقال عُبيد بن عمير: العُتُلّ الأكول الشروب القويّ الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة؛ يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدُّفعة الواحدة سبعين ألفا.
وقال عليّ بن أبي طالب والحسن: العُتُلّ الفاحش السييء الخلق.
وقال معْمر: هو الفاحش اللئيم.
قال الشاعر:
بعُتُلّ من الرجال زنِيم ** غير ذي نجدة وغير كريم

وفي صحيح مسلم.
عن حارثة بن وهب سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة قالوا بلى قال كلُّ ضعيف مُتضعِّف لو أقسم على الله لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار قالوا بلى قال كلُّ عُتُلٍّ جوّاظٍ مُسْتكْبِر» في رواية عنه «كلُّ جوّاظ زنيم متكبّر» الجوّاظ: قيل هو الجمُوع المنوع.
وقيل الكثير اللحم المختال (في مشيته).
وذكر الماوردي عن شهْر بن حوْشب عن عبد الرحمن بن غنم، ورواه ابن مسعود: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة جوّاظ ولا جعْظرِيّ ولا الْعُتُلّ الزّنيم. فقال رجل: ما الجوّاظ وما الجعْظريّ وما العُتُلّ الزّنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجوّاظ الذي جمع ومنع. والجعْظرِيّ الغليظ. والعُتُل الزّنيم الشديد الخلْق الرّحيب الجوف المصحّح الأكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس». وذكره الثعلبي: عن شدّاد بن أوس: «لا يدخل الجنة جوّاظ ولا جعْظرِيّ ولا عُتُل زنيم سمعتهن من النبيّ صلى الله عليه وسلم قلت: وما الجوّاظ؟ قال: الجمّاع المنّاع.
قلت: وما الجعْظرِيّ؟ قال: الفظّ الغليظ.
قلت: وما العُتُلّ الزنيم؟ قال: الرّحِيب الجوفْ الوثيِر الخْلق الأكول الشروب الغشوم الظلوم»
.
قلت: فهذا التفسير من النبيّ صلى الله عليه وسلم في العُتُل قد أربى على أقوال المفسرين.
ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجوّاظ أنه الفظّ الغليظ.
ذكره من حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة الجوّاظ ولا الجعْظرِيّ قال: والجوّاظ الفظّ الغليظ».
ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أوّلا.
وقد قيل: إنه الجافي القلب.
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ} قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تبكي السماء من رجل أصحّ الله جِسْمه ورحّب جوْفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك الْعُتُلّ الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تُقِلّه والزّنِيم المُلْصق بالقوم الدّعيّ»؛ عن ابن عباس وغيره.
قال الشاعر:
زنيمٌ تداعاه الرجال زيادة ** كما زيد في عرْضِ الأدِيم الأكارعُ

وعن ابن عباس أيضا: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة.
وروى عنه ابن جُبير: أنه الذي يُعرف بالشر كما تُعرف الشاة بزنمتها.
وقال عِكرِمة: هو اللئيم الذي يُعرف بلؤمه كما تُعرف الشاة بزنمتها.
وقيل: إنه الذي يعرف بالأُبنْةِ.
وهو مروي عن ابن عباس أيضا.
وعنه أنه الظلوم.
فهذه ستة أقوال.
وقال مجاهد: زنِيم كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام له إصبع زائدة.
وعنه أيضا وسعيد ابن المسيّب وعكرمة: هو ولد الزّنى الملحق في النسب بالقوم.
وكان الولِيد دعِيّا في قريش ليس من سِنْخهم؛ ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده.
قال الشاعر:
زنِيمٌ ليس يُعرف من أبوه ** بغيّ الأُمّ ذو حسب لئيم

وقال حسّان:
وأنت زنِيم نِيط في آل هاشمٍ ** كما نِيط خلْف الراكب القدحُ الفرْدُ

قلت: وهذا هو القول الأول بعينه.
وعن عليّ رضي الله عنه أنه الذي لا أصل له؛ والمعنى واحد.
وروِي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة ولدُ زنى ولا ولده ولا ولد ولده» وقال عبد الله بن عمر: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير» وقالت ميمونة: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفْشُ فيهم ولدُ الزِّنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أوشك أن يعمهم الله بعقاب» وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنى قحط المطرُ.
قلت: أما الحديث الأول والثاني فما أظن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحْش زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: «خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما فزِعا مُحْمرّا وجْهُهُ يقول: لا إله إلا الله.
ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب. فُتح اليوم من ردْم يأجوج ومأجوج مثلُ هذهوحلّق بإصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت فقلت: يا رسول الله، أنهْلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثُر الخبث»
خرّجه البخارِيّ.
وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى؛ كذا فسّره العلماء.
وقول عكرمة (قحط المطر) تبيينٌ لما يكون به الهلاك.
وهذا يحتاج إلى توقيف، وهو أعلم من أين قاله.
ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يُطعم أهل مِنى حيْسا ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدنّ أحد تحت بُرْمةٍ، ألا لا يدخّنن أحد بكُراع، ألا ومن أراد الحيْس فليأت الوليد بن المغيرة.
وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر، ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل: {منّاعٍ لِلْخيْرِ}.
وفيه نزل: {وويْلٌ لِّلْمُشْرِكِين الذين لا يُؤْتُون الزكاة} [فصلت: 6-7].
وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخْنس بن شريق، لأنه حليف مُلْحق في بني زُهْرة، فلذلك سُمِّي زنِيما.
وقال ابن عباس: في هذه الآية نُعِت، فلم يعرف حتى قُتل فعرُف، وكان له زنمة في عنقه معلّقة يُعرف بها.
وقال مُرّة الهمْدانيّ: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.
قوله تعالى: {أن كان ذا مالٍ وبنِين}
قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيْوة والمغيرة والأعرج {آن كان} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام.
وقرأ المُفضّل وأبو بكر وحمزة {أأن كان} بهمزتين مُحقّقتين.
وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر؛ فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على {زنِيم}، ويبتدئ {أنْ كان} على معنى ألأِن كان ذا مال وبنين تطيعه.
ويجوز أن يكون التقدير: ألأِن كان ذا مال وبنين يقول إِذا تُتْلى عليهِ آياتُنا: أساطِيرُ الأوّلِين!! ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر.
ودلّ عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام.
ومن قرأ {أنْ كان} بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين.
ودل على هذا الفعل: {إِذا تتلى عليْهِ آياتُنا قال أساطِيرُ الأولين}.
ولا يعمل في (أن): {تُتْلى} ولا {قال} لأن ما بعد {إِذا} لا يعمل فيما قبلها؛ لأن {إذا} تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف.
و {قال} جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء؛ إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال.
ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.
قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على {زنِيم} لأن المعنى كان وبأن كان، ف (أن) متعلقة بما قبلها.
قال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله: {مشّاءٍ بِنمِيم} والتقدير يمشي بنميم لأن كان ذا مال وبنين.
وأجاز أبو عليّ أن يتعلق ب {عُتُلٍّ}.
و {أساطير الأولين}: أباطيلهم وتُرّهاتهم وخرافاتهم.
وقد تقدم.
{سنسِمُهُ على الْخُرْطُومِ (16)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {سنسِمُهُ} قال ابن عباس: معنى {سنسِمُهُ} سنخْطِمه بالسيف.
قال: وقد خُطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف؛ فلم يزل مخطوما إلى أن مات.
وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سِمة يُعرف بها؛ يقال: وسمْته وسْما وسِمة إذا أثّرت فيه بِسِمةٍ وكيّ.
وقد قال تعالى: {يوْم تبْيضُّ وُجُوهٌ وتسْودُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] فهذه علامة ظاهرة.
وقال تعالى: {ونحْشُرُ المجرمين يوْمِئِذٍ زُرْقا} [طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة.
فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار؛ وهذا كقوله تعالى: {يُعْرفُ المجرمون بِسِيماهُمْ} [الرحمن: 41] قاله الكلبي وغيره.
وقال أبو العالية ومجاهد: {سنسِمُهُ على الخرطوم} أي على أنفه، ونسوّد وجهه في الآخرة فيُعْرف بسواد وجهه.
والخرطوم: الأنف من الإنسان.
ومن السباع: موضع الشّفة.
وخراطيم القوم: ساداتهم.
قال الفراء: وإن كان الخُرْطُوم قد خُصّ بالسِّمة فإنه في معنى الوجه؛ لأن بعض الشيء يعبّر به عن الكل.
وقال الطبري: نبيّن أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمة على الخراطيم.
وقيل: المعنى سنُلْحِقُ به عارا وسُبّة حتى يكون كمن وُسِم على أنفه.
قال القُتبيّ: تقول العرب للرجل يُسبّ سُبّة سوء قبيحة باقية: قد وُسِم مِيسم سوء؛ أي أُلْصِق به عارٌ لا يفارقه؛ كما أن السّمة لا يُمْحي أثرها. قال جرير:
لمّا وضعتُ على الفرزْدق مِيسمِي ** وعلى البعِيث جدعْتُ أنف الأخْطلِ

أراد به الهجاء.
قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة.
ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه؛ فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة؛ كالوسْم على الخرطوم.
وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذُلّ وصغار؛ قاله ابن بحر.
واستشهد بقول الأعشى:
فدعها وما يغنيك واعمد لغيرها ** بشعرك واعلب أنف من أنت واسم

وقال النّضْر بن شُميل: المعنى سنحُدّه على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر:
تظلّ يومك في لهْوٍ وفي طرب ** وأنت بالليل شرّاب الخراطيم

قال الراجز:
صهْباء خُرْطوما عُقارا قرْقفا

وقال آخر:
أبا حاضر من يزْن يُعرف زناؤه ** ومن يشرب الخُرْطوم يُصبح مسكرا

الثانية: قال ابن العربي: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي كما تقدم أن اليهود لما أهملوا رجْم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم الوجه؛ وهذا وضع باطل.
ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قُبْح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته؛ فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية.
وأعظم الإهانة (إهانةُ الوجه).
وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار؛ فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود؛ حسب ما ثبت في الصحيح. اهـ.